تزعم سلطات الأمن في صحرائنا أنها تتبوأ مكانة
السلطة " الأبوية" الحريصة على الشعب و الأكثر حلما و تعاليا، كما تزعم
أن من ينتقدون أداءها من المطالبين بالحقوق المدنية و السياسية إنما هم مفترون
متحاملون أو خونة ببساطة، إلا أنها طالما عجزت أن تصنع كما صنع جرير ذات يوم و هو
الشاعر الأموي الشهير حينما فاجأه رجل قائلا: هاجني! فقال له جرير: و من أنت حتى أهجوك؟!
فرد الرجل: أنا البَردَخْت. فقال جرير: و ما البردخت؟ فقال له الرجل: هو "الفارغ"
بالفارسية، حينها نهره جرير مفوِّتا عليه
فرصة دخول عالم الشهرة على حسابه و لو بهجائه قائلا له: اذهب..! ما كنت
لأشغل نفسي بفراغك!
يبقى
فارق القياس هنا أن بطالة الشباب الصحراوي و فراغه ليسا كفراغ البردخت اللاهث وراء
الشهرة، كما أن السلطة الحاكمة ليست بحكمة جرير و لا بأنَفته فهي لا تتورع عن إعمال
العنف و تكسير العظام كلما قام في وجهها راغب في الشهرة أو زاهد فيها.. لا فرق! و حين
تعجز السلطة عن ضبط النفس، و توسيع هامش الحريات، و غض الطرف عن الأشكال السلمية
للتعبير و الاحتجاج، فهي إنما تسعى لترميز المزيد من المناضلين و الحقوقيين الذين يحظون بتعاطف
جماهيري متزايد، و ربما بشهرة دولية و إعلامية و هم يودعون الخوف و الرهبة مع كل
ضربة و ركلة، و تسقط من نفوسهم كل بقايا الهيبة لسلطان الدولة لتحل محلها شجاعة
متنامية و حماسة كبيرة للفعل و رد الفعل مفتوحة على جميع الاحتمالات، سواء على
مستوى النضال النقابي أو السياسي أو الحقوقي...
و عليه فعندما
تعطي السلطات أية فرصة لخصومها في الجزائر
أو البوليساريو أو أوروبا للنيل منها و تسويق دعاية مضادة فلا تلومنّ إلا نفسها
فالحرب الإعلامية و السياسية القائمة حول
قضية الصحراء لم تعد سباقا نحو التسلح بقدر ما هي سباق نحو الأحقية بتمثيل
الصحراويين عبر إحراز أكبر عدد من النقط في مجال حقوق الإنسان، و تأمين أفضل
المشاريع المجتمعية و السياسية الكفيلة بطمأنة الصحراويين على مستقبلهم، و ضمان
حقوقهم من جهة، و طمأنة المراقبين الدوليين و ضمان حيادهم أو استمالتهم من جهة أخرى، و ذلك في انتظار أن تخرج القضية المعمِّرة من عنق الزجاجة..
لقد اندلع الربيع الصحراوي مع شرارة اكديم
ايزيك و هي محطة برزخية فاصلة في تاريخ تدافع أهل الصحراء مع المخزن، و قد برز هذا
المتغير الاجتماعي السياسي فجأة ليلفت انتباه الصحراويين و غيرهم إلى أمرين:
ــ أولهما أن
خيمة المخزن التي تبدو واحدة متماسكة إنما تقبع تحتها "خويمات" تتصارع في خفاء
من أجل مصالحها و حساباتها الضيقة على حساب أمن الدولة، و قد غض بعضها الطرف عن
المخيم حتى وصل إلى شكله النهائي، ليستنتج الجميع أن سياسات الدولة و أجهزتها هي
السبب أولا في خروج أول خيمة إلى العراء، و هي المسئولة أخيرا عن التحاق آخر خيمة
كذلك..!
ــ و الأمر
الثاني هو اكتشاف المجتمع الصحراوي الذي توزعته القبلية و التوجهات المتباينة أنه
بات يستبطن قوة شعبية كامنة لا يستهان بها
أشبه ببركان نائم، و أن سياسات التفريق القبلي و العشائري و إن أتت أكلها كما أريد
لها، إلا أنها لا تحول دون تكتل كل مكونات النسيج المجتمعي و اتحاد كلمتها في لحظة
واحدة كلما أحست أن الخطر يتهدد كينونتها أو أن مصلحتها القومية في كف عفريت..!
و الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا،
فالمخزن يشيخ و يهرم لكنه لا يرد الى أرذل العمر حتى ينهض من رماده كالعنقاء من
جديد! و إزاء بروز أجيال صحراوية فتية قادرة على الفعل و خلق الحدث في زمن ثورة
الإعلام و الاتصالات و حقوق الإنسان و الانترنت، فلم يعد بوسع المخزن أن يتمادى
كثيرا أو يطمس الحقائق لكن عليه، و هو الخبير المستغني عن النصيحة، أن يغير المعطف
القديم على الأقل بمعطف أكثر أناقة، و أن يضع قفازات من حرير على قبضته الحديدية التي
بدأ الصدأ ينتابها فيما يبدو ..
ــ المقال نشرته مجلة "صوت الصحراء" العدد الثاني
ــ صحراء بريس http://www.4non.net/news5946.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق