لا بد في البداية من طرح السؤال المنهجي: ماذا نقصد بالقضية الدينية أولا؟
و سأركز هنا على القضايا الدينية في عرف المسلمين.
إن تعريف القضية الدينية قد يكون امرا سهلا في الثقافة الغربية التي هي في الغالب علمانية و يمكن التمييز لديها بسهولة بين الديني و اللاديني، بينما الأمر قد يكون مختلفا لدى الثقافات التي لا ينفصل الدين فيها عن الشؤون اليومية للحياة، و بالأخص الدين الإسلامي الذي كلما زاد انتشاره في العالم او ازدادت المعرفة الدقيقة بفحوى و مقاصد خطابه، الا و ازداد معها إدراك مسألة بالغة الأهمية : وهي أنه لا يخرج عن خطاب الوحي الإسلامي شيء من أعمال البالغين المعنيين بالرسالة الإسلامية، فكل حركة و سكنة تصدر عن المسلم لا تخرج عن أحكام التكليف الشرعية المعروفة عند المسلمين، بمعنى أن كل ما يقوم به المسلم لا يكون في نظر المشرع إلا مندرجا ضمن واحد من الأحكام الدينية التالية :
1ــ المستحب: فاعله يثاب و تاركه لا يعاقب.
2 ــ المكروه: تاركه يثاب و فاعله لا يعاقب.
3 ــ الواجب: فاعله يثاب و تاركه يعاقب.
4 ــ الحرام: تاركه يثاب و فاعله يعاقب.
5 ــ الجائز: هو المباح يستوي فعله و تركه في الحكم أي لا ثواب و لا عقاب على فعله أو تركه. على أن ذلك لا يخرجه أيضا عن نظر الله المشرع الرقيب، الخبير بالعباد، و قد يتحول الجائز إذا وقع تغيير في حدوده، فيدخله ذلك في إحدى دوائر الأحكام التكلفية الأخرى..و قد عرف الدين الإسلامي بثراء تشريعاته و تفريعاته القانونية و للوقوف على ذلك يرجع بالضرورة إلى علم الفقه و علم أصول الفقه وعلم مقاصد الشريعة و غيرها.. وهي علوم عقلية / نقلية، دقيقة و مبدعة وشاملة.. و لذلك يشهد المتخصصون أنه لا نظير لها أبدا في تراث أو حاضر الديانات الأخرى..
و تكاد تحظى هذه العلوم بمحل الإجماع النظري بين غالبية المسلمين، إلا أن الاختلاف الإفتائي أو القضائي حول تنزيلها على أفعال الراشدين يعتبر من ابرز أسباب الاختلاف داخل طوائف و فرق المسلمين.. وعموما فكلما ازداد احترام و معرفة المسلم لدينه أدرك أن العلمانية أو اللاييكية التي تدعو الى فصل الدين عن الدنيا هي شيء خطير يستحيل أن ينجح او يقبل به المسلمون الذين يعتقدون أن الإسلام دين شامل، خاتم، و خالد، لم يصبه التحريف أو التبديل الذي أصاب الأديان الأخرى..
إذا فهمنا هذا الأمر سيسهل علينا أن نفهم دواعي ما يسمى بظاهرة الحركة الإسلامية أو جماعات الإسلام السياسي التي تجلب و تقنع أعدادا كبيرة من الأتباع كل يوم، و هذه الحركات رغم انقسامها بين الاعتدال و التشدد واختلاف افهماها و وسائلها، إلا أنها تُجمع كلها على مشروع و غاية واحدة و تعتبرها من أوجب القربات التعبدية، هذه الغاية هي إحياء الفكر والشريعة الإسلامية المعطلة وإعادة تحكيمها و تكييفها مع الواقع أو بالأحرى تكييف كل مناحي العصر مع روح الدين الإسلامي..و هو ما يسميه بعض الإسلاميين و علماء الدين بأسلمة الحداثة ـ انظر كتابات حسن البنا و القرضاوي و الغزالي و كتاب الداعية الإسلامي و مرشد جماعة العدل والإحسان بالمغرب عبد السلام ياسين وهو من أوائل من أطلق مشروع أسلمة الحداثة في كتاب بنفس التسمية كتبه بالفرنسية و هو مترجم لاربع لغات، وهذا رابط الكتاب بالانجليزية:
بعد هذا التقديم يمكننا أن ندرك أن مفهوم القضايا الدينية عند المسلمين يختلف عن مفهوم الغربيين الذين ترتبط عندهم القضايا الدينية في الأغلب بقضايا الكنيسة و رجالها وعلاقتها المحدودة بمجتمعها اللاديني..و لذلك يستغرب المجتمع الغربي للحساسية الشديدة و الحماس العاطفي او الغضب الجماهيري للمسلمين إزاء الكثير من القضايا التي يرى الغرب انه لا علاقة لها بالدين مثل قضايا حقوق المرأة و لباسها و قضايا الميراث، والمعاملات المالية و العقود المدنية، و حرية الصحافة والتعبير مثل الأفلام و رسوم الكاريكاتير المسيئة للأديان. وقضايا الأقليات المهاجرة و قضايا السياسة و الفن والمجتمع عموما...و كلها قضايا حيوية تتعلق بها أحكام ومقاصد الدين الإسلامي، و يتصدى لها الفقهاء عبر الاجتهاد العقلي /الشرعي لإصدار الأحكام لمستجداتها التي لم تكن في عصر النبوة و ذلك بالقياس على نصوص القرآن والسنة النبوية..
وهناك آيات و أحاديث كثيرة لا تفصل الدين عن جزئيات حياة المسلم..منها حديث نبوي يتأسف على ما سيقع في العالم الإسلامي من "علمنة" وهو حديث يؤكد على ان الحكم يعتبر من أهم عرى الدين الإسلامي، يقول: " لتنتقضن عرى ـ أي حلقات ـ الإسلام عروة، أولهن نقضا الحكم و آخرهن الصلاة..كلما انتقضت عروة تمسك الناس بالتي تليها.." و تصديق تلك النبوة أن الدين الإسلامي بدأ برسول حاكم، و خلفاء علماء حكام على مجتمع مواظب على شعائره التعبدية، ثم آل الأمر بعد قرون إلى أن أصبح الملايين من المسلمين اليوم لا يؤدون فريضة الصلاة.. هذا الحديث يفهم منه المسؤولية و الارتباط العضوي التسلسلي بين نظام الحكم و التزام المجتمع بالشرائع التعبدية..اي أن الحكم السياسي الديني العادل الرشيد، هو الشرط الضامن لإقامة الديانة كلها بقوة الحكم وتشريعاته، و كل خلل في استقامة و تدين نظام الحكم ينتج عنه خلل و تضييع لحقوق الله و حقوق المجتمع المسلم على حد سواء..
لذلك نعود فنقول ان قلة اطلاع الكثير من الصحفيين في العالم الإسلامي وغيره على العلوم المرتبطة بالأديان يمكن ان ينجم عنه تخبط و التباس في تغطياتهم الصحفية الدينية و هذا يفرض عليهم التسلح بما يكفي من المعلومات الدينية اللازمة للتحليل و التركيب و الاستنتاج..
وفي الختام أعتقد أن مسألة الدقة والعدالة في التغطية الصحفية الدينية تبقى مطلبا فنيا مهنيا و أخلاقيا موازيا مجمعا عليه في عالم الصحافة لكنه لوحده لا يجدي نفعا إذا لم يكن هناك الحد الأدنى اللازم من المعرفة العلمية و الأكاديمية بهذا التخصص، لان أساس الصحافة المتخصصة المعرفة أولا و المعرفة أخيرا...
شكرا على هذه المداخلة الجيدة التي اتحفنا بها الأستاذ محمد لبيهي حول علاقة الديني بالاعلامي، وهي إشكالية لا تقل في اهميتها عن اشكالية الديني والسياسي ان لم تكن جزءا اساسيا منها، غير أن انني اود الاشارة الى انه بالاضافة الى هذه الازمة المعرفية التي تختلج العمل الاعلامي الاسلامي، يطفو على السطح إشكال اخر يرتبط ببنبة العمل الاعلامي نفسه وسيطرة بعض القوى والتيارات السياسية والثقافية عليه، والتي لا تألوا جهدا في مواجهة الثقافة الاسلامية وتوابعها، من خلال حملات التشويه وتحريف الحقائق، وإظهار المسالة الدينية في ثوب التخلف والرجعية والارهاب.
ردحذفنلاحظ أن وسائل الاعلام الغربية في كثير من الأحيان تسوق بوعي او بدون وعي ثقافة اسلامية تنتجها هي وتريد أن تنظر للاسلام من خلالها مصادرة حق المسلمين انفسهم في تعريف المفاهيم وفي صناعة المصطلحات، مثلا المقاومة الارهاب الشهيد الضحية، الاسلام المسيحي النصراني، الديمقراطي، الحداثي.