صحافة المواطن في ربيع الثوراث العربية
1-الصحافة وثورة الإعلام الرقمي
في البدء كانت الصحافة العربية... وفي البداية كان الأدباء والكتاب العرب هم أول من وضع اللبنات الأولى لمهنة المتاعب في عالمنا العربي أسعفهم في ذلك امتلاكهم لناصية اللغة العربية و خبرتهم بدقائق الإنشاء ومسالك التعبير...وقد وجدوا في الصفحات البيضاء اليومية فرصة كبيرة لإختبار ملكاتهم التعبيرية والتواصل اليومي مع جمهور من القراء المتعطشين للمعرفة والشغوفين بمتابعة الأنباء و أخبار المجتمع.
ثم ما لبثت الصحافة بطبعها المتغير أن واكبت موجة التحولات السياسية و الإجتماعية و التقنية الكبرى التي عرفتها المنطقة ليأخذ لعمل الصحفي طريقه نحو الاحترافية و المهنية رغم أن الصحافة ظلت توصف لدى الكثيرين بمهنة من لا مهنة له لسهولة ولوجها نسبيا مقارنة مع الكثير من المهن و الوظائف الأخرى.
ولم تعد الصحافة حبرا على ورق، بل هجمت على الناس في أقاصي المعمورة وتسللت دون إذن إلى أعماقهم عبر كل منافذ الحس و الإدراك، وجمعتهم رغم تباعدهم ليتشاركوا جديد الأنباء في نفس اللحظة.
وليتفاعلوا أيضا مع آخر التغطيات المباشرة لآخر الحركات و السكنات على كوكب الأرض بدءا من مسالك الأسماك، وانتهاءا إلى مدارج الأفلاك..! ولقد لعبت الثورة التكنولوجية في مجال الأقمار الاصطناعية وصناعة الإعلام السمعي والبصري دورا حاسما في جعل الصحافة والإعلام سلطة واسعة النفوذ، وسلاحا فعالا بيد الحكومات، وملاك مؤسسات الإعلام و الفاعلين الدوليين المتحكمين في شكل و محتوى و سرعة الصبيب و تدفق المعلومات عبر الأثير، وعبر حبال الانترنت العابرة للقارات.
ولا ينبئك عن مدى انتشار هذا الغزو الإعلامي للعالم مثل نظرة من الأعالي لمشهد الصحون المقعرة (البارابول) وهي تتكاثر بشكل مذهل كقبعات الفطر الأبيض على أفقر دور الصفيح في العالم الثالث و أكثرها بعدا عن مواطن المدنية الحديثة...ناهيك عن الارتفاع الهائل لأعداد المتسمرين أمام الشبكة العنكبوتية، أو العالقين بها دون حراك وقد لفتهم بخيوطها اللاصقة طوال اليوم!
هكذا تفعل الانترنت بملايين الأشخاص المسحورة أعينهم وأسماؤهم وقلوبهم بما يشاهدونه أو يتشاركونه مع بعضهم البعض في عالم افتراضي مجنون...
وتعتبر شريحة الشباب من أكثر الفئات العمرية تعلقا بهذا العالم، وهم ما بين باحث يعرف ضالته في الشبكة، وبين ضال في وديانها لا يلوي على شيء..!
هذه الشبكة الماردة أصبحت أمرا واقعيا و إيجابيا لا يكاد يستغني عنه الأفراد ولا المؤسسات، وذلك لما توفره من إمكانيات خلق و امتلاك عدد لا متناهي المدونات و المنابر التواصلية و الدعائية، وعلب البريد الالكتروني و مواقع الدردشة، فضلا عن صفحات المواقع الاجتماعية ذات الشعبية الكبيرة كالفيسبوك والتويتر وغيرها...
وكل هذه الابتكارات التفاعلية، تجعل الآن أكثر المواطنين خمولا وبساطة قادرا على البحث والتواصل مع أخطر الأفراد و المؤسسات شأنا، و أبعدهم مكانا ومكانة في عصرنا الحديث، وكيف لا ولقد أصبح لأكبر الزعامات السياسية و الفكرية و الدينية وغيرها مواقع وعناوين الكترونية وخطوطا هاتفية للتواصل مع العالم دون كبير عناء.. ومن باب أولى، فقد استفاد العمل الصحفي و الإعلامي كثيرا من منافع الشبكة وخدماتها المتجددة والمجانية سواء على مستوى البحث عن الخبر المكتوب والمصور، أو على مستوى البث والنشر على مدار الساعة، وقد صار لكل محطة إعلامية مواقع على الانترنت لمزيد من الارتباط بالجمهور.
2. صحافة المواطن بين هز الاحتكار وكسر الرقابة:
لقد وجدت الصحف الورقية نفسها في عصرنا الرقمي مضطرة لمواكبة مستجدات الثورة المعلوماتية، وحجز مكان لها على الشبكة خصوصا أمام تكاثر المواقع الاخبارية المتنوعة بلا ضابط ولا رقيب، لكن بميزة الإخبار الفوري المتجدد و إمكانية التفاعل المستمر مع جمهور مزاجي كثير الملل وقليل الصبر،وهو يميل بطبعه (الشبابي) إلى الإثارة والجديد المختصر أكثر من ميله إلى قراءة المطولات...وهو واقع ثقافي مؤسف وقد بات يهدد سوق الجريدة الورقية ويقلص من مبيعاتها أمام السيل الجارف من الأخبار المتنوعة المجانية والتي لم تعد تتطلب أكثر من الجلوس أمام الحاسوب الشخصي و الضغط على زر الإبحار لتطير بك الشاشة الصغيرة عبر فضاءات لا تنتهي..
وإزاء ما يشهده عالمنا اليوم من حروب ونزاعات وبؤر للتوتر، وأحداث متسارعة، فقد أصبحت الحاجة ملحة إلى المزيد الصحفيين و المراسلين لتغطيات شاملة و كاملة...وقد قلصت هذه الثورة الرقمية المفتوحة من هيبة الترسانات القانونية المقيدة للصحافة في العالم، وهزت احتكار الخبر و المعلومة، وكسرت مقص الرقابة الحكومية و السياسية و الأمنية على ما تبثه وسائل الإعلام عموما، وجعلت العالم بذلك يدخل بداية النهاية لزمن السرية والغموض، و التكتم الصحفي، و التعتيم الإعلامي وتلفيق الأخبار ترويج الأكاذيب والمغالطات لتوجيه الرأي العام، ولعل موقع ويكيليكس الشهير، ورغم ما ثار حوله من جدل سياسي وإعلامي، يعتبر من أبرز الأمثلة على إمكانية تسريب وكشف وتبادل أكثر الأسرار خطورة في العالم من طرف الأفراد و بشكل غير مسبوق...
وهكذا أتاحت الثورة المعلوماتية لكل مواطن في العالم أن يصنع الخبر أو ينقله بفصاحة ووضوح ويبثه بالصوت و الصورة على الهواء مباشرة على الشبكة العنكبوتية محرزا بذلك السبق على أكبر وكالات الأنباء، وأكثر الفضائيات انتشارا..! نعم، إنه ما بات يعرف الآن بصحافة المواطن، وهي صحافة غير تقليدية وغير رسمية أبطالها مواطنون لم يعد يشفي غليلهم ما تبثه وسائل الإعلام الرسمية الموجهة وغير المحايدة أو المضطرة لاجتزاء الحقائق أو إخفاء الوثائق..لذلك فلا مجال لتضييع الفرصة لتغطية أكثر جرأة ومصداقية على موقع يوتوب أو على الراديو أو على تليفزيون الانترنت (WEB RADIO – WEB TV) أو على المواقع الاجتماعية التشاركية...
لقد لعبت المواقع الاجتماعية دورا كبيرا وحاسما في إشعال و تأجيج الثورات العربية التي أطاحت بأكثر الأنظمة بوليسية وأشدها استبدادا، ويتعلق الأمر بالنظام التونسي والمصري، وهو ما سبب الذهول و الرعب و أحرج أكثر الأنظمة الإستخباراتية في الشرق والغرب، وجعل وسائل الإعلام التقليدية تدخل وبشكل اضطراري مرحلة جديدة فرضتها صحافة المواطن "المشاغبة" الجريئة والسباقة إلى الأخبار العاجلة..
وقد وجدت أكبر المؤسسات الإعلامية و المنظمات الدولية نفسها مضطرة أو راغبة في الاعتراف والتعامل مع المواطنين الصحفيين غير الرسميين، وذلك بتمكينهم من نشر أهم ما تلتقطه عدساتهم من صور و أفلام وتغطيات، وتنظيم دورات لتأهيلهم نظريا ليقوموا بأدوارهم على أكمل وجه، و ربما وجدت الجهات المنظمة في ذلك فرصة لتوفير الميزانيات و أرواح الصحافيين الرسميين المؤمن عليهم..!
وقد أثارت صحافة المواطن جدلا قانونيا تنظيميا و إعلاميا كبيرا حول ما إذا كانت هذه الصحافة الجديدة منافسة مزعجة، أو ملهِمة و مكمِلة.. كما علا النقاش كذلك حول إمكانية استيعاب المواطنين الصحفيين عبر سن تشريعات خاصة لضبط و تنظيم أنشطتهم وانتاجاتهم وذلك أمام تزايد احتجاجات المدونين للاعتراف بمطالبهم أو ضد ما يتعرضون له من اضطهاد وتهديدات سياسية وأمنية بسبب تعبيرهم عن آرائهم بكل حرية وتطوير مدوناتهم التي أصبح الكثير منها يحظى بشهرة عالمية ملفتة.
و الظاهر أنه كلما ازداد غضب الشارع العربي على الفساد و الاستبداد إلا وازدادت معه حاجة المواطنين ورغبتهم في التدوين وبث تغطياتهم على أوسع نطاق للتعبير عن الغضب و الاستنكار، وفضح الانتهاكات والممارسات اللاإنسانية التي تتورط فيها الأنظمة العربية..هذه الأخيرة وجب عليها الآن أن تحسب حسابها للعدسات البسيطة و المتطورة، والكاميرات الخفية للمواطنين الصحفيين البارزين والمختبئين في السماء و الأرض تأهبا لرصد وتغطية كل تدخل عنيف أو انتهاكات لحقوق المدنيين العزّل.. إنها ثورة الصحافة فعلا! وقد أصبح داخل كل مواطن عربي غاضب، يسكن صحفي مارد على أهبة الاستعداد لاغتنام كل فرصة لكتابة مقال أو التقاط صورة أو مشهد مثير..ولا يستطيع أحد أبدا التكهن أو الاستخفاف بما يمكن أن يحدثه ذلك العمل أو السبق من ضجة لدى الرأي العام أو قلب لموازين الأمور، أو فضح أو زعزعة لأغوار المستور..
الأن فقط وفي زمن الثورات العربية، أصبحت الصحافة في بلداننا مؤهلة لأن تكون السلطة الرابعة، أو على الأصح السلطة الثانية بعد السلطة الأولى والوحيدة للأنظمة الشمولية، هذه الأنظمة التي ألهمت مواطنيها من حيث لا تشعر! و فرضت عليهم فرضا أن يقتحموا عالم الصحافة ليطلقوا صيحات الألم والاحتجاج وهم يتمثلون(الكوجيطو) العربي الجديد: (أنا مواطن عربي، إذن أنا صحفي فعلا..!).
بقلم محمد لبيهي
بقلم محمد لبيهي
نشرت المقال بجريدة العلم عدد: 21993
بتاريخ 6 يونيو 2011
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق